19 شوال 1446 هـ   18 نيسان 2025 مـ 11:48 مساءً كربلاء
سجل الايام
القائمة الرئيسية

2025-04-09   87

من الماء كانت البداية: تأملات في قوله تعالى (وجعلنا من الماء كل شيء حي)

الشيخ معتصم السيد أحمد

تُعد آية (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ) من أبرز الآيات التي سلطت الضوء على العلاقة العميقة بين الماء والحياة، حاملةً في طياتها دلالات علمية ومعرفية لم يكن من المتاح للبشر الإحاطة بها في زمن نزول الوحي. فهي تُصرّح بحقيقة لم يؤكدها العلم إلا في الأزمنة الحديثة، وهي أن الماء يشكّل الأساس لكل صور الحياة على الأرض، بل وربما كان له دورٌ أعمق في نشأة الكون ذاته. وبغض النظر عن دلالة "الماء" في الآية، أكان هو الماء الطبيعي المعروف، أم المادة الأولى التي انبثق منها كل شيء، فإن هذه الآية تكشف عن جانب من الإعجاز القرآني الذي ما زال يفتح لنا آفاقاً جديدة في كل عصر. وفي هذا المقال، نقف عند كلا التفسيرين لنستعرض ما فيهما من أبعاد تأملية ومعرفية تشير إلى صدق هذا الكتاب العظيم.

 

أولاً، نبدأ بالتفسير الأول الذي يشير إلى الماء على أنه ذلك السائل الذي نعرفه في الأرض والذي يعد أساساً لكل الكائنات الحية. هذا التفسير يتماشى مع الفهم العلمي الحديث حول دور الماء في الحياة. إن الماء يمثل مكوناً أساسياً في الكائنات الحية، فكل الخلايا الحية تحتوي على نسبة عالية من الماء، والتي تتراوح من 70% إلى 90% في بعض الكائنات. بالإضافة إلى ذلك، يعتبر الماء الوسط المثالي للتفاعلات الكيميائية الحيوية التي تحدث داخل الكائنات الحية. هذه التفاعلات تشمل التفاعلات التي تحدث في عملية التمثيل الغذائي، التي من خلالها يتم تحويل المواد الغذائية إلى طاقة تستخدمها الخلايا.

 

فأهمية الماء تتجاوز كونه مكوناً رئيسياً للخلايا، بل إن الماء يعد أيضاً عاملاً مهماً في تنظيم درجة حرارة الكائنات الحية، وحمل المواد الغذائية والمغذيات، وكذلك التخلص من الفضلات. على سبيل المثال، يعمل الماء على نقل الأوكسجين والمواد المغذية إلى الخلايا، كما يساعد في إزالة السموم من الجسم من خلال البول أو العرق. علمياً، لا يمكن لأي كائن حي أن يستمر في الحياة دون الماء، وقد أظهرت العديد من الدراسات الحديثة أن الحياة على الأرض لا يمكن أن تستمر أو تتطور إلا بوجود الماء.

 

على الرغم من أن الماء يعد عنصراً أساسياً للحياة على الأرض، فإن العلماء بدأوا في دراسة تأثير الماء على الحياة في كواكب أخرى. لقد أصبحت مسألة البحث عن حياة خارج كوكب الأرض مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بوجود الماء السائل، حيث يعتبر وجود الماء في كوكب ما مؤشراً محتملاً على إمكانية وجود حياة.

 

أما التفسير الآخر، فيرى أن المقصود بـ"الماء" في هذه الآية ليس هو الماء المعروف الذي نشربه ونتعامل معه في حياتنا اليومية، بل هو إشارة إلى أصل الأشياء كلها؛ أي أن الماء في الآية يمثل المادة الأولية التي خُلق منها الكون بأسره، بما فيه من كواكب ومجرات. فحتى الماء الذي نعرفه اليوم يُعد مخلوقاً من ذلك الأصل الأول. وبهذا الفهم، تُشير الآية إلى نشأة المادة في عالم الطبيعة، وترتبط ببدايات الخلق. وإذا تأملنا تمام الآية وهي قوله تعالى: (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا  وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ)، نرى أنها تتحدث عن مرحلة البدء الكوني، حينما كانت السماوات والأرض كتلة واحدة فتم انفصالهما، وهو ما يذكره العلم الحديث بنظرية الانفجار العظيم.

 

ومن المعلوم أن هذه النظرية (الانفجار العظيم) من أحدث النظريات في تفسر نشوء الكون، حيث تقول إن الكون بدأ من حالة شديدة الكثافة والحرارة، وكانت هذه الحالة مركزة في نقطة صغيرة جداً تُسمى "المتفردة" (Singularity)، لا يمكن وصفها بقوانين الفيزياء المعروفة. لم يكن هناك "انفجار" بالمعنى المألوف، وإنما كان هناك توسّع هائل بدأ فجأة. في اللحظة الأولى (وهي ما يسمى بالزمن صفر)، لم يكن هناك لا زمان ولا مكان، وفجأة بدأت هذه النقطة الصغيرة جداً في التوسع بسرعة فائقة، وبدأ معها تكوّن الزمان والمكان والمادة والطاقة. وكل ما نراه اليوم من مجرات ونجوم وكواكب كان نتيجة لهذا التوسع المستمر منذ حوالي 13.8 مليار سنة.

 

ما يهمنا هنا هو أن الآية الكريمة تتحدث عن بداية تشكّل الكون وخلق السموات والأرض، ثم تربط ذلك بالحديث عن الماء. لذا، لا يُستبعد تفسير الماء في هذه الآية على أنه يشير إلى المادة الأولية التي خُلقت منها جميع الأشياء، وما يعزز هذا المعنى هو حديث الإمام الباقر (عليه السلام)، حيث صرح بأن الماء هو المادة التي خُلِق منها كل شيء، حيث قال: "وخلق الشيء الذي جميع الأشياء منه، وهو الماء الذي خلق الأشياء منه، فجعل نسب كل شيء إلى الماء، ولم يجعل للماء نسباً يضاف إليه". ثم يكمل الإمام (عليه السلام) فيقول: "وخلق الريح من الماء، ثم سلط الريح على الماء، فشقّت الريح متن الماء حتى صار من الماء زبد على قدر ما شاء أن يثور، فخلق من ذلك الزبد أرضاً بيضاء نقية ليس فيها صدع ولا ثقب ولا هبوط ولا شجرة، ثم طواها فوضعها فوق الماء، ثم خلق الله النار من الماء، فشقّت النار من الماء حتى ثار من الماء دخان على قدر ما شاء الله أن يثور، فخلق من ذلك الدخان سماءً صافية نقية ليس فيها صدع ولا ثقب" (الكافي ج8 ص 94)

وعن الإمام الباقر (عليه السلام) أيضاً في كتاب "الكافي" أنه قال: "كان كل شيء ماء، وكان عرشه على الماء، فامر الله تعالى الماء فاضطرم ناراً، ثم أمر النار فخمدت فارتفع من خمودها دخان فخلق الله السموات من ذلك الدخان، وخلق الأرض من الرماد" (الكافي ج8 ص 153)، هذه الرواية تتشابه مع ما جاء في نظرية الانفجار العظيم التي تتحدث عن نشوء الكون من انفجار مادي عظيم، وتحول الدخان الناتج عن هذا الانفجار إلى الكواكب والنجوم.

 

وهناك رواية أخرى في تفسير علي بن إبراهيم عن الإمام الصادق (عليه السلام)، تقول لقي الأبرش أبا عبد الله عليه السلام فقال: يا أبا عبد الله! أخبرني عن قول الله "أولم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما" فما كان رتقهما وما كان فتقهما؟ فقال أبو عبد الله عليه السلام: "يا أبرش! هو كما وصف نفسه كان عرشه على الماء، قال: "كان عرشه على الماء، والماء على الهواء، والهواء لا يحد ولم يكن يومئذ خلق غيرهما، والماء يومئذ عذب فرات، فلما اراد ان يخلق الارض أمر الرياح فضربت الماء حتى صار موجا، ثم ازبد فصار زبدا واحدا فجمعه في موضع البيت، ثم جعله جبلا من زبد، ثم دحا الارض من تحته، فقال: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ}. ثم مكث الرب تبارك وتعالى ما شاء، فلما اراد ان يخلق السماء أمر الرياح فضربت البحور حتى ازبدت بها فخرج من ذلك الموج والزبد من وسطه دخان ساطع من غير نار، فخلق منه السماء، وجعل فيها البروج والنجوم، ومنازل الشمس والقمر، وأجراها في الفلك وكانت السماء خضراء على لون الماء الاخضر، وكانت الارض غبراء على لون الماء العذب، وكانتا مرتوقتين ليس لهما أبواب" (البحار ج 56 ص 371).

 

في ختام هذا المقال، نؤكد على أن ما ورد من تفسير نشأة الكون بنظرية الانفجار العظيم لا يعدو كونه مجموعة من الفرضيات العلمية، التي قد تتغير وتتبدل مع تطور البحث والاكتشاف. فالعلم لا يقف عند حد، وكلما تقدم الإنسان في معارفه، انفتحت أمامه أبواب جديدة من الأسئلة، وازدادت المساحات التي يجهلها. ولعل هذا ما عبّر به أحد العلماء بقوله: "كلما زاد فهمنا، زادت الاحتمالات الغريبة لجهلنا"، في إشارة إلى أن الكون قد يكون أعقد وأبعد عن الإدراك مما نظن.

 

وفي مقابل هذا السعي العلمي لفهم بداية الكون، نجد في بعض روايات أئمة أهل البيت عليهم السلام إشارات قد تبدو قريبة في ألفاظها أو معانيها من بعض المفاهيم التي يتداولها العلماء في هذا الباب. غير أنه لا يمكن الجزم بهذه التفسيرات، فكل ما في الأمر هو محاولات تأملية لإعادة قراءة هذه النصوص القديمة بلغة علمية معاصرة. فقد تكون ألفاظ مثل "الريح" أو "الدخان" أو "الزبد" وغيرها، رموزاً لمفاهيم كانت تُفهم في سياقها الزماني بلغة ذلك العصر، ويحاول الباحث اليوم أن يقاربها بمفاهيم الفيزياء الكونية. ومع ذلك، فإن هذا يبقى في إطار الاجتهاد والتأمل، لا في دائرة التطابق القطعي.

 

وعليه، فإن روايات أهل البيت عليهم السلام تمثل منجماً غنياً بالتأملات التي يمكن أن تفتح آفاقاً لفهم الإنسان لنشأة الكون، دون أن تكون بديلاً عن أدوات البحث العلمي، أو مرتهنة له. هي نصوص تحمل في طياتها إشارات قد تلتقي مع بعض المعاني العلمية، لكنها في الوقت ذاته تستبقي بعدها الروحي والتأملي، مما يمنحها طابعاً خاصاً في النظر إلى الوجود وبداياته.

 

يبقى الدافع الأساس لهذا المقال هو تسليط الضوء على الإعجاز القرآني في قوله تعالى: "وجعلنا من الماء كل شيء حي"، سواء فُهم الماء بمعناه الظاهر كمصدر الحياة في الأرض، أو باعتباره المادة الأولية التي بدأ منها خلق الكون. فهذه الآية تحمل من العمق والاتساع ما يجعلها قابلة للتأمل على ضوء المعارف الحديثة، مما يعكس بُعداً إعجازياً في النص القرآني يستمر في إثارة الدهشة كلما تطور العلم واتسعت معارف الإنسان.

جميع الحقوق محفوظة لموقع (الإسلام ...لماذا؟) - 2018 م